Dr.Nariman

التربية الأسرية وتأثيرها على العلاقات المستقبلية للأطفال

June 16, 20255 min read

التربية الأسرية وتأثيرها على العلاقات المستقبلية للأطفال

حين يولد الطفل، لا يبدأ التعلم من المدرسة، وإنما من حضن العائلة. في كل نظرة، وفي كل تفصيلة يومية، ألاحظ كيف يتشرّب الطفل القيم وتتشكّل ملامح سلوكه. هنا تبرز لدي أهمية التربية الأسرية باعتبارها اللبنة الأولى في بناء الشخصية. لا أراها مجرد تعليمات تُلقّن، وإنما منظومة حياتية تغذّي العاطفة، وتوجّه الفكر، وتُرسّخ القيم. وكما لا يمكن أن يقوم بناء بلا أساس، أجد أن الإنسان لا ينهض بدون بيئة أسرية تمنحه الثبات الداخلي، وترافق خطواته الأولى نحو العالم.

كيف تؤثر التربية الأسرية على مستقبل الأطفال؟

مفهوم التربية الأسرية يشير إلى العملية المستمرة التي تقوم بها الأسرة لتنشئة أبنائها وتوجيههم في مختلف جوانب الحياة النفسية، الاجتماعية، الأخلاقية، الثقافية، والسلوكية، بهدف إعدادهم ليكونوا أفراداً متوازنين ومسؤولين في المجتمع. يمكن تلخيص تأثير التربية الأسرية على الأطفال من خلال عدة أبعاد:

1. التنشئة القيمية والأخلاقية

أدركتُ، من خلال دراستي للتنشئة الأسرية، أن القيم الأخلاقية لا تُلقَّن تلقيناً، وإنما تُغرس عبر التفاعل الحيّ والمستمر بين الطفل وأسرته. ففي البيئة الأسرية تتشكّل البذور الأولى للضمير الأخلاقي، ويبدأ الطفل في التعرّف على مفاهيم مثل الصدق، والاحترام، وروح التعاون، وتحمل المسؤولية. وقد لاحظتُ أن هذه القيم تنتقل من خلال المواقف اليومية التي يعيشها الطفل مع والديه وإخوته، حيث تُصبح القدوة السلوك الفعلي الذي يتعلّم منه ويحتذي به. من هنا، أعتبر التربية الأسرية المرجع الأساسي الذي تتكوّن فيه البوصلة الأخلاقية للطفل، وتستمر في توجيهه خلال مختلف مراحل حياته، مؤثرة في قراراته، وعلاقاته، واختياراته المستقبلية.

2. الدعم العاطفي والنفسي:

من خلال بحثي في العلاقات الأسرية وتأثيرها على نمو الطفل، وجدتُ أن الدعم العاطفي والنفسي الذي تقدّمه الأسرة يشكّل أحد أعمدة التوازن الداخلي لدى الأبناء. حين يعيش الطفل في مناخ عاطفي مستقر، يتلقى فيه حباً غير مشروط، وحناناً مستمراً، وتقديراً حقيقياً لمشاعره واحتياجاته، تبدأ ملامح الأمان النفسي بالظهور تدريجياً. في هذا الإطار الآمن، تنمو شخصيته، كما يتعزّز أيضاً شعوره بقيمته الذاتية، ويكتسب الثقة التي تمكّنه من خوض تجارب الحياة، ومواجهة تحديات النمو، والانخراط في محيطه بثبات واطمئنان.

3. النمو الاجتماعي والتواصل

لاحظتُ، من خلال تتبّعي لتطوّر المهارات الاجتماعية لدى الأطفال، أن الأسرة تُعدّ المدرسة الأولى التي يتعلّم فيها الطفل مبادئ التفاعل الإنساني. ففي هذا الإطار القريب والآمن، يبدأ بممارسة الحوار، ويتدرّب على الإصغاء بانتباه، ويختبر أهمية الاحترام المتبادل من خلال علاقاته اليومية مع أفراد عائلته. هذه الخبرات المبكرة تُعدّ الطفل تدريجياً للانخراط في نسيج المجتمع الأوسع، مزوّداً بثقة داخلية وقدرة حقيقية على بناء علاقات صحّية ومتينة مع الآخرين.

4. التوجيه السلوكي والانضباط

اكتشفتُ خلال دراستي أن الأسرة تُشكّل الإطار الرئيس لتوجيه سلوك الطفل وضبطه؛ إذ تضع حدوداً واضحة وضوابط ثابتة تساعده على التمييز بين المقبول والمرفوض. وألاحظُ أن هذا التنظيم لا يقتصر على ضبط السلوك فحسب، وإنما يُنمّي في الطفل قدرته على اتخاذ قرارات مسؤولة بعد ملاحظة تبعات أفعاله في سياق يوازن بين الحرية والانضباط. وفي هذا الفضاء الأسري المدعوم بالتوجيه، يكتسب الطفل مهارة المحاسبة الذاتية، ما يُعدّه ليتحمل مسؤولياته الاجتماعية ويواجه تحديات الحياة بثبات وإدراك.

5. الدعم المعرفي والتعليمي

تُعدّ الأسرة نقطة البداية في تشكيل علاقة الطفل بالتعلّم، فالدعم المعرفي يتجلى في نمط التفاعل اليومي داخل المنزل. عندما يسود الحوار، ويُحترم السؤال، وتُقدَّر المحاولات حتى مع الخطأ، ينشأ الطفل في بيئة تعلّم حقيقية، تُعزّز دافعيته الداخلية وتُنمّي لديه حب المعرفة. في المقابل، تُظهر الدراسات أن البيئات الأسرية التي يغلب عليها النقد أو الإهمال تُضعف الحافز المعرفي، ما ينعكس سلباً على الأداء الأكاديمي. ومن منظور نظمي، فإن جودة العلاقة بين أفراد الأسرة تلعب دوراً مباشراً في مدى قدرة الطفل على التركيز، وتنظيم وقته، وتحمّل أعباء التعلّم.

نتائج انفصال الوالدين على الأطفال 

في مطلع القرن الحادي والعشرين، سُجلت نسب متفاوتة للأطفال الذين عايشوا انفصال والديهم قبل سن الخامسة عشرة، ولا يحدث الانفصال فجأة، إذ تُظهر الأبحاث أنه عملية تبدأ غالباً بتصاعد التوتر بين الوالدين قبل الطلاق، وتستمر آثاره النفسية على الأطفال لفترة طويلة بعده. هذا التوتر وحده قد ينعكس سلباً على رفاهية الطفل، حتى في حال لم يقع الانفصال فعلياً.


بعد الانفصال، يتغير نمط الحياة الأسرية؛ فيغيب أحد الوالدين عن الحياة اليومية، ويُطلب من الطفل التكيف مع واقع جديد قد يتضمن نزاعات مستمرة، أو حضانة مشتركة، كما في السويد، حيث يعيش نحو ثلث الأطفال بين منزلين. رغم ذلك، غالباً ما تقل مشاركة الوالد غير المقيم، في حين تتأثر الأم – بوصفها الوالد المقيم عادة – بضغط زمني ونفسي يعيد تشكيل أنماط التربية الأسرية.


يُضاف إلى ذلك تراجع الموارد الاقتصادية، والحاجة إلى تعديل أنماط العمل، والانتقال إلى منازل أو مدارس جديدة، فضلاً عن دخول شركاء جدد أو إخوة غير أشقاء، ما يزيد من تعقيد التجربة على الطفل. وقد أظهرت الدراسات أن الأطفال الذين يعيشون تجربة الانفصال يواجهون غالباً تحديات في الرفاه النفسي، والسلوك، والتحصيل الدراسي، والعلاقات الاجتماعية، مقارنة بأقرانهم ممن نشؤوا في أسر مستقرة. من هنا، تصبح التربية الأسرية في ظل هذه الظروف مسؤولية عميقة تستوجب دعماً ممنهجاً لضمان نمو الطفل واستقراره النفسي وسط تحولات الأسرة.

أخطاء في التربية الأسرية تؤثر على سلوك الطفل 

من خلال ملاحظاتي الميدانية، تبيّن لي أن بعض الممارسات التربوية تُضعف نمو الطفل النفسي والاجتماعي، منها:

  • التسلّط الذي يقيّد حرية التعبير ويُنتج شخصية ضعيفة، والحماية الزائدة التي تُرسّخ الاتكالية، والإهمال الذي يترك فجوات في التكوين العاطفي والسلوكي.

  • كما لاحظتُ أثر العنف اللفظي أو الجسدي في إضعاف الشعور بالأمان الداخلي، وغياب دور الأب في التربية، مما يُحدث شرخاً في العلاقة الأُسَرية.

  • يُضاف إلى ذلك التذبذب في الأساليب التربوية، والمقارنة بين الأبناء، والتفرقة بينهم، وهي أنماط تُغذّي الغيرة وتُضعف الثقة.

  • كذلك، فإن تلبية رغبات الطفل دون حدود، أو السعي لجعله "الأفضل دائماً"، يُربكه عاطفياً ويُقلل من قدرته على تحمّل الإحباط.

  • وفي النهاية، وجدتُ أن إهمال الأهل لذواتهم يُنمّي لدى الطفل سلوك التمركز حول الذات، ويُضعف قدرته على احترام حدود الآخرين.



في نهاية هذا الطرح، أؤمن بأن التربية الأسرية هي المنبع الأول الذي تتشكّل فيه ملامح الطفل العاطفية والاجتماعية. ومن خلال عملي، رأيت كيف يُحدث التوجيه السليم فرقاً حقيقياً في مستقبل الأبناء. لهذا أقدّم عبر الدورات التدريبية والاستشارات التي أُشرف عليها أدوات عملية تساعد الأهل على بناء علاقات صحية ومستقرة مع أطفالهم، وتعزيز بيئة أسرية تزرع الثقة، وتُمهّد لطفل متّزن وواثق من نفسه.


Back to Blog